قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} :
"إذا رأى من المصلحة ألّا يبيّن فلا بأس أن يكتم؛ كما جاء في حديث علي بن أبي طالب: (حدّثوا الناس بما يعرفون أتُحِبّون أن يكذب الله ورسوله؟!) وقال ابن مسعود: (إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) فإذا رأيت من المصلحة ألّا تبيّن فلا تبيّن ولا لوم عليك". اهـ
تفسير سورة البقرة ١ / ١٥٤
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد في المسائل بعد حديث معاذ في الصحيحين (لا تبشّرهم فيتّكلوا)، قال:
"السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة".
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح:
"كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص، لا على سبيل الإطلاق، فجائز للمصلحة، كما كتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن بقية الصحابة؛ خشيةَ أنْ يتّكلوا عليه، وقال لمعاذ: (لا تبشّرهم فيتّكلوا)... بل قد تقتضي المصلحة ترْكَ العمل وإنْ كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم الكعبة ويَبْنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترَكَ ذلك خشية افتتان الناس لأنهم حدِيثُو عهدٍ بكُفر".
📚 القول المفيد ١ / ٥٥
وقال العلّامة صالح الفوزان كما في إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ١ / ٥٠:
"..وأخبر به معاذاً، لأن معاذاً من الجهابذة، ومن خواص العلماء، فدلَّ على أنه يجوز كتمان العلم للمصلحة، إذا كان يترتب على إيضاح بعض المسائل للناس محذور: بأن يفهموا خطأً، أو يَتَّكِلوا على ما سمعوا، فإنهم لا يُخبَرون بذلك، وإنما تلقى هذه المسائل على خواص العلماء الذين لا يُخشى منهم الوقوع في المحذور، فأخذ العلماء من هذا الحديث جواز كتمان العلم للمصلحة، وإنما أخبر معاذ رضي الله عنه بهذا الحديث عند وفاته، خشية أن يموت وعنده شيء من الأحاديث لم يبلِّغه للناس، كما في حديث علي رضي الله عنه: "حدِثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله"، يعني: لا يُلقى على كل الناس بعض المسائل التي فيها أمور يَخفى عليهم معناها، أو تشوِّش عليهم، وإنما يُلقى على الناس ما يفهمونه، ويستفيدون منه، أما نوادر المسائل، وخواص المسائل، فهذه تلقى على طلبة العلم، والمتفقهين المتمكِّنين، وهذا من الحكمة ووضع الشيء في موضعه، لمّا تكون أمام عُصاة يشربون الخمور، ويزنون، ويسرقون، وتقول: الله غفور رحيم، الله قريب مجيب، الله سبحانه وتعالى يغفر ويسمح، فيزيدون في الشرور، لكن حين تقول لهم: اتقوا الله، الله سبحانه وتعالى توعّد الزناة بالعذاب وتوعّد على السرقة، وعلى المعاصي بالعذاب الشديد، فتذكر لهم نصوص الوعيد، من أجل التوبة، ولو أتيت عند متمسِّكين وطيبين فذكرت لهم آيات الوعيد، فهذا ربما يزيدهم وسواساً، أو تشدّداً، فأنت تذكر لهم آيات التيسير، وأحاديث التيسير، والتسهيل، والرحمة، الفرج، إلى غير ذلك، من أجل أن لا يزيدوا ويشتدوا ويغلوا، فكل مقام له مقال، وتوضع الأمور في مواضعها، هذا هو الميزان الصحيح، والناس ليسوا على حد سواء، كل يخاطب بما يستفيد منه ولا يتضرر به، فلا تأتي بآيات الوعد والرجاء عند المتساهلين، ولا تأتي بآيات الوعيد عند المتشددّين، بل تكون كالطبيب تضع الدواء في موضعه المناسب، هكذا يكون طالب العلم، إذا كانت هناك أمور غامضة لا يعرفها العوام، ولا تتسع لها عقولهم، من المسائل العلمية، فلا تُلقى على العوام، وإنما تُلقى على طلبة العلم، وعلى الناس الذين يستوعبونها، ولهذا يقول ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلاَّ كان لبعضهم فتنة" وقال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله".". اهـ