الثلاثاء، 27 يونيو 2023

كما تكونون يولَّى عليكم

 كما تكونون يولَّى عليكم 


بسم الله الرحمن الرحيم 


الحمد لله رب العالمين 


أما بعد،


فإن هذه العبارة ( كما تكونون يولى عليكم ) 


لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم


فهي ليست حديثًا نبويا 

[السلسلة الضعيفة للألباني رقم ٣٢٠]


ولكن هي عبارة صحَّحَ جَمْعٌ من الأئمة معناها بناءً على أدلة شرعية دالة عليها 


قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَإِنَّهُ كَمَا تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيْكُمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا}".

مجموع الفتاوى ٣٥ / ٢٠


وقال الإمام الطرطوشي المالكي -رحمه الله-:

"لم أزَل أسمع الناس يقولون: أعمالكم عُمّالكم [يعني: ولاتكم]، كما تكونوا يولى عليكم، إلى أنْ ظفرت بهذا المعنى في القرآن: قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً}.

وكان يُقال: ما أنكرتَ من زمانك فإنما أفسده عليك عملك!

وقال [الخليفة] عبد الملك بن مروان: ما أنْصَفتُمونا يا معشر الرَّعِيّة! تريدون منّا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما! نسأل الله أن يعين كل على كل. 

وقال قتادة: قالت بنو إسرائيل: إلهنا أنت في السماء ونحن في الأرض فكيف نعرف رضاك من سخطك؟ فأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائهم: إذا استعملتُ عليكم خياركم فقد رضيت عنكم، وإذا استعملت عليكم شراركم فقد سخطت عليكم.

وقال عبيدة السلماني لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ما بال أبي بكر وعمر انطاع الناس لهما والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما، ووُلّيت أنت وعثمان الخلافة ولم ينطاعوا لكما وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟ فقال: لأنّ رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك!

وكتب أخ لمحمد بن يوسف يشكو إليه جَوْر العمال، فكتب إليه محمد بن يوسف: بلغني كتابك وتذكر ما أنتم فيه، وليس ينبغي لمن يعمل المعصية أن ينكر العقوبة، ولم أر ما أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، والسلام". اهـ

سراج الملوك للطرطوشي ص١١٦


وقال الإمام ابن عثيمين -رحمه الله-: 

"فإذا رأيت ولاة الأمور قد ظلموا الناس في أموالهم، أو في أبدانهم، أو حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الله عز وجل، أو ما أشبه ذلك؛ ففكر في حال الناس؛ تجد أن البلاء أساسه من الناس، هم الذين انحرفوا؛ فسلّط الله عليهم مَن سلّط من ولاة الأمور، وفي الأثر ـ وليس بحديث ـ كما تكونون يولى عليكم".

شرح رياض الصالحين ٢ / ٣٥


وقال أيضًا -رحمه الله-:

"ولا تظنوا أن الولاة إذا ظلموا أو اعتدوا أن هذا تسليط من الله تعالى لمجرد مشيئة من الله، بل هو لحكمة؛ لأن الله قال: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:١٢٩] .

والولاة لا يتسلطون على الرعية إلا بسبب الرعية، كما تكونون يُوَلَّى عليكم".

لقاء الباب المفتوح، رقم ٤٥.


وقال الإمام الجليل ابن القيّم -رحمه الله-:

"وتأمَّل حكمتَه تعالى في أنْ جَعَل ملوكَ العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأنَّ أعمالهم ظهرت في صُوَر وُلاتهم وملوكهم؛ فإنِ استقاموا استقامت ملوكُهم، وإنْ عدلوا عدلوا عليهم، وإنْ جاروا جارت ملوكُهم وولاتهم، وإنْ ظهر فيهم المكرُ والخديعةُ فوُلاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبَخِلوا بها منعت ملوكُهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحقِّ وبَخِلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممَّن يستضعفونه ما لا يستحقُّونه في معاملاتهم أخذت منهم الملوكُ ما لا يستحقُّونه وضربوا عليهم المُكوسَ والوظائف، وكلُّ ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجُه الملوكُ منهم بالقوَّة؛ فعمَّالهم ظهرت في صُوَر أعمالهم. وليس في الحكمة الإلهيَّة أن يولَّى على الأشرار الفجَّار إلّا مَن يكونُ من جنسهم.

ولمّا كان الصَّدرُ الأوَّلُ خيارَ القرون وأبَرَّها كانت ولاتُهم كذلك، فلمَّا شابوا شِيبَت لهم الولاة، فحكمةُ الله تأبَى أنْ يولَّى علينا في هذه الأزمان مثلُ معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلًا عن مثل أبي بكرٍ وعمر، بل ولاتُنا على قَدْرِنا وولاةُ مَن قَبلنا على قَدْرِهم". اهـ

مفتاح دار السعادة ٢ / ٧٢٢


وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(ولم يَنْقُصُوا المكيالَ والميزان إلّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشدة المَئُونَة وجَوْرِ السلطان عليهم).

جزء من حديث رواه ابن ماجه (٤٠١٩) والحاكم (٨٦٢٣) وحسّنه الألباني.


وهو نَصٌّ في أن عمل الناس بالغش والخديعة سبب لجَور السلطان عليهم.


فالواجب على المسلمين أن يصلحوا أنفسهم إنْ أرادوا أن يصلح الله لهم ولاتهم، واللهُ يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وبيده قلوب العباد، إنْ شاء هدى الولاة وعطفهم على رعيّتهم 


وجَور الولاة من جملة المصائب التي يُصاب بها الناس بسبب ذنوبهم فتكون لهم تكفيرًا لسيّئاتهم وتهذيبًا لهم وسببًا لتذكّرهم ورجوعهم إلى الله تعالى 


قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبِمَا كسَبَتْ أَيْدِيكُم}

وقال تعالى: {ظهَرَ الفسادُ في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس لِيُذِيقَهُم بعضَ الذي عَمِلُوا لعلّهم يَرجِعُون}


لذلك قال الإمام ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- وهو يقرر معتقد أهل السنّة في وجوب الصبر على جَور الولاة:


"وأمّا لزوم طاعتهم وإنْ جَاروا فلأنّه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإنّ الله تعالى ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}". اهـ

شرح الطحاوية ص٣٧٢


فهذا المعنى مشهور صحيح بين العلماء 


بل قال التابعي الجليل الإمام الحسن البصري -رحمه الله- عن الأمير الظالم الحجّاج بن يوسف الثقفي:


"يا أيُّهَا الناسُ، إنّهُ واللهِ ما سَلَّطَ اللهُ الحَجّاجَ عليكم إلّا عقوبة، فلا تُعَارِضُوا عقوبَةَ اللهِ بالسيفِ، ولكنْ عليكم السكينة والتضَرُّع".


رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٧ / ١٦٤ وإسناده صحيح 


وأمّا ما ذكره العلّامة الألباني -رحمه الله- في السلسلة الضعيفة ١ / ٤٩١ بأن معنى الحديث الضعيف: ( كما تكونون يولى عليكم ) غير صحيح على إطلاقه لأنه حصل وأنْ تولّى خليفةٌ صالح بعد خليفةٍ فاجر والشعب هو هو 


فهذا لا يبطل صحة هذه العبارة كما قد يظن البعض 


وقد أُورِدَ هذا الإشكال أيضًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شَرٌّ منه) رواه البخاري (٧٠٦٨).

قال ابن الأثير -رحمه الله- في هذا الحديث: "سُئل الحسنُ عَنْهُ فَقِيلَ: مَا بالُ زَمَانِ عُمَرَ بْنِ عبدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ زَمَانِ الْحَجَّاجِ؟ فَقَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيس. يَعْنِي أنَّ اللهَ يُنَفِّسَ عَنْ عِبَادِهِ وقتًا ما، وَيَكْشِفُ الْبَلَاءَ عَنْهُمْ حِينًا". اهـ

النهاية ٢ / ٤٥٨ 


فالجواب على ما ذكره الشيخ الألباني هو الجواب الذي ذكره ابن الأثير على حديث أنس.

وقد ذكر أنس هذا الحديث لأناسٍ شكَوْا إليه ما يَلقون من الحجّاج.


ثم إنه قد يقال أيضًا: بأن تولّي الصالح بعد الفاجر إنما حصل بعد حصول العقوبة للناس بالفاجر وتكفير سيّئاتهم به وتهذيبهم ونحو ذلك 

وقد يكون تولي الصالح أو الفاجر اختبارًا للناس كما قال تعالى: {ونَبْلُوكُم بالشرِّ والخير فتنة} 


وأختم بهذا النقل النفيس للعلّامة الألباني -رحمه الله-: قال معلّقًا على كلام لابن أبي العز الحنفي وفي آخره: (فإذا أراد الرعية أن يتخلّصوا من ظُلم الأمير الظالم فلْيتركوا الظلم)، قال -رحمه الله-:


"وفي هذا بيان لطريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هُم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم، ويصححوا عقيدتهم، ويربوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح، تحقيقًا لقوله تعالى: {إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين بقوله: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم).

وليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلاح على الحكام بواسطة الانقلابات العسكرية، فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها الأمر بتغيير ما بالأنفس، وكذلك فلا بد من إصلاح القاعدة لتأسيس البناء عليها، {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}". اهـ

التعليق على الطحاوية ص٧٨


فأسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل بكتابه وسنّة رسوله ﷺ وسلوك سبيل السلف والأئمة 

فإن الشيطان قد زيّن للكثيرين أعمالهم فحَرَفَهُم عن السبيل وأشغلهم بالطعن بالولاة والإثارة وفيما لا يَعنِيهِم من السياسة عن دعوة التوحيد والتمسك بالسنّة حتى بلغ بهم إلى تحريف السنّة وتبنّي المناهج الفاسدة كالديمقراطية الغربية والعياذ بالله

وقد قال عز وجل لرسوله ﷺ: {قُل هذه سبيلي أدعُو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومَنِ اتّبَعَنِي}.

والله المستعان.

الأحد، 25 يونيو 2023

تنبيه على خطأ من يحرص على علم السنّة ويغفل عن علوم القرآن

 قال العلّامة ابن عثيمين في فوائد قول النبي ﷺ: (يَؤُمُّ القومَ أقرَؤُهم لكتاب الله، فإنْ كانوا في القراءة سواء فأعلَمُهُم بالسنّة) الحديث. رواه مسلم.


قال رحمه الله:

"أنه ينبغي لطالب العلم أنْ يبدأ بفهم كتاب الله، ثم بفهْم سنّة رسول الله ﷺ، لأن النبي ﷺ جَعَلَ فهْمَ كتاب الله وحِفظَه فوق فهْم السنّة وحِفظها.

وبهذا نعرِف خطأ مَنْ يَحرِصُونَ على علم السنّة ولكنهم يَغفُلون عن علوم القرآن، لأن بعض الطلبة يعتني بالسنّة اعتناءً بالغًا ولكنه يُغْفِل القرآن، فلو تسأله عن آية من أوضح الآيات وقَفَ حائرًا! لكن لو تسأله في السنّة لوجدته مطّلعًا عليها، وهذا خطأ، لأن الأولى أن نبدأ بالقرآن ثم بالسنّة، لأن القرآن هو الأصل والسنّة مفسّرة ومبيّنة وموضّحة للقرآن".


📚 التعليق على المنتقى ٢ / ٣٨٤

السبت، 24 يونيو 2023

الاجتماع بالإخوان قسمان

 "الاجتماعُ بالإخوانِ قسمانِ:

أحدُهُما: اجتماعٌ على مؤانسةِ الطبع وشُغْل الوقتِ؛ فهذا مَضَرَّتُهُ أرجحُ من منفعتِهِ، وأقلُّ ما فيه أنَّه يُفْسِدُ القلبَ ويُضيِّعُ الوقتَ.


الثاني: الاجتماعُ بهم على التعاونِ على أسباب النَّجاةِ والتَّواصي بالحقِّ والصبر؛ 

فهذا من أعظم الغنيمةِ وأنفعها، 

ولكنَّ فيه ثلاث آفاتٍ: إحداها: تزيُّنُ بعضهم لبعضٍ. الثانيةُ: الكلامُ والخِلْطة أكثر من الحاجةِ. الثالثةُ: أن يصيرَ ذلك شهوةً وعادةً ينقطعُ بها عن المقصود".

📚 الفوائد للإمام ابن القيم ص٧١

الثلاثاء، 13 يونيو 2023

القول بأن (النظر في الأدلة صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق) شبهة شيطانية

قال العلّامة حمد بن ناصر آل معمر -رحمه الله-:

"هذه شبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدّعي العلم وصاد بها أكثرهم فظنّوا أنّ النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلّا المجتهد المطلق، وأنّ مَن نظر في الدليل وخالَفَ إمامه لمخالفةِ قوله لذلك الدليل فقد خرج عن التقليد ونسَبَ نفسه إلى الاجتهاد المطلق.

واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير حتى آلَ الأمر بهم إلى أنْ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، وزعموا أنّ هذا هو الواجب عليهم وأنّ مَن انتسب إلى مذهبِ إمامٍ فعليه أنْ يَأخُذ بعزائمه ورُخَصه وإنْ خالَفَ نصَّ كتابٍ أو سنّة، فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أُمّته لا يجوز الخروج عن قوله ولا تجوز مخالفته!".


📚 رسائل وفتاوى العلّامة حمد بن ناصر آل معمر ص٢٣