الاثنين، 30 مايو 2016

الحياة الطيّبة



سُئِل الإمام ابن عثيمين -رحمه الله-:

ما هو الجَمْع بين قول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَـلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أَشَدُّ الناس بَلاءً الأنبياء ثم الأمْثَل فالأمثل) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يُبتَلَى الرجل على قَدْرِ دِينه) فكيف يُجمَع بين الحياة الطيبة والبلاء في حياة المؤمن؟

الجواب:

"الحياة الطيّبة ليست كما يفهمه بعض الناس: السلامة من الآفات مِنْ فقر ومرض وكدر.
لا، بل الحياة الطيبة أن يكون الإنسان طيّب القلب منشرح الصدر مطمئنًّا بقضاء الله وقَدَرِه، إنْ أصابته سرّاء شَكَر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاءَ صبَرَ فكان خيراً له، هذه هي الـحياة الطيبة، وهي راحة القلب.
أمّا كثرة الأموال وصحة الأبدان فقد تكون شقاءً على الإنسان وتَعَباً، وحينئذٍ لا يكون هناك مُنافاة بين الآية الكريمة وبين ما ذكره السائل مِنَ الحديثين، فإنّ الإنسان قد يُبتَلَي بالبلايا العظيمة ولكن قلبه مطمئنٌ وراضٍ بقضاء الله وقَدَره، ومنشرح الصدر لذلك، فلا تؤثّر عليه هذه البَلايا شيئًا". اهـ

فتاوى إسلامية ج٤ ص٦٤

الجمعة، 27 مايو 2016

الإسلام يوجّه العقل التوجيه الصحيح


قال العلّامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-:

"إنّ عقيدة الإسلام لا تَغُلُّ العقل والفِكر، بل هي تبصِّرُ العقل وتوجِّهُهُ التوجيهَ الصحيح إلى احترام الحق وتحرّي الحقائق والبحث عنها بتثبُّتٍ وأَنَاةٍ وأدب، وتَفُكُّ أَسْرَه من الخرافات والتقاليد والعقائد الفاسدة وتحطِّم أغلالها وآصارها، وتَضَع للعقل حدودًا لا يتعدّاها". اهـ

نظرات في كتاب التصوير الفني في القرآن الكريم لسيد قطب، ص423 باختصار

الأحد، 15 مايو 2016

كلام نفيس للإمام ابن عثيمين يرد فيه على من يقول: لا تهاجموا الأشاعرة والإخوان وغيرهم



قال الإمام ابن عثيمين -رحمه الله- في رسالة لأحد الكُتّاب:

"حادي عشر: في الصفحة ... عدد ... دَعَا فضيلتكم إلى الكَف عن مهاجمة أَتْباع المذاهب والأشاعرة والإخوان، حتى الصوفيين أصحاب الطُّرُق المعروفة، وعَلَّلْتُم ذلك بأنّ الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم شيءٌ واحد وهو حب الإسلام وخدمة الدين، ومنهم من يُخطِئ في الأسلوب أو في الطريق، ثم دَعَوتُم إلى أن نوجِّههم بالحُسنى إلى الجادّة.
ولا رَيْب أنّ التوجيه بالحُسنى مطلوب، وأنّ لِلدعوة إلى سبيل الله تعالى أربع مراتب ذَكَرَها اللهُ تعالى في آيتين، أولاهُما: قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والثانية: قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
وكثير من هؤلاء المُخالِفين للسلف تقوم عليهم الحُجة بأوضح بيان وأَفصح عبارة ولكنهم يُعاندون وربما يَعْتَدُون ويَستطيلون على أهل الحق بوصفهم بألقاب السوء لينفِّروا الناس عن الحق الذي هم عليه. ومثل هؤلاء لا يمكن الدعوة إلى مُداهنتهم وتَرْك مهاجمتهم؛ لأن ذلك إضعاف لجانب الحق وذُل وخنوع لأهل الباطل.
وأمّا التعليل الذي ذكرتموه مِنْ أن الجميع يريدون وَجْه الله ويجمعهم حب الإسلام وخدمة الدين فلا رَيْب أن بعضهم يدّعي ذلك، ولكن الإخلاص وحده لا يكفي بل لا بُد من عملٍ صالح، ولا يكون العمل صالحًا حتى يكون مخلَصًا لله متَّبَعًا فيه شريعته التي كان عليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبَعوهم بإحسان؛ قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فلم يَكْتَفِ بمجرد إسلام الوجه لله تعالى بل قيَّد ذلك بقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}. ومن المعلوم أن المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتّخذونهم أولياء كانوا يدَّعون حُسْن القصد، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وأنّ مِنْ هؤلاء الطوائف الذين دَعَوْتُم إلى تَرْك مهاجمتهم وزعمتم أنهم يريدون وجه الله مَنْ اتَّخَذَ مِنْ دُون الله أولياء يحبّونهم كحب الله أو أشد.
ثم إنّ كُل من يدّعي أنه يريد وجه الله والدار الآخرة فإنه غير مقبول في دَعْواه حتى يأتي بالبيِّنة التي نَصَبها اللهُ تعالى بُرهانًا على ذلك في قوله تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم...}. فمن ادَّعى أنه يريد وجه الله وأنه يحب دينه وهو الإسلام نَظَرْنا في موقفه تجاه الإسلام فإنْ كان على ما كان عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العقيدة والقول والعمل كان صادِقًا في دَعواه، وإنْ قصر في ذلك عَلِمْنا أنه قد نَقَص مِنْ صِدْقه بقدر ما قصر فيه.
وليعلم فضيلتكم أنّ كثرة العدد ليست وحدها السبب في نُصرة الإسلام وعزة المؤمنين؛ فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة)) كما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وأعلَّه الترمذي، وأنّما النّصرة لِمن نَصَرَ الله عز وجل واتَّبَع رسوله ظاهرًا وباطنًا؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، وقال جَلَّ ذِكْرُه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 
فنسأل اللهَ تعالى أن يجمع المسلمين على كلمة الحق، وأن يعيذهم من البِدَع والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يصلح لهم ولاةَ أمورهم، وأن يجعلنا وإيّاكم من الهداة المهتدين وقادة الخير المصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يَهِبَ لنا مِنْهُ رحمةً إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
٢٤\١٢\١٤٠٣ هـ". اهـ

مجموع فتاوى ورسائل الإمام ابن عثيمين، ج1 ص275-278

السبت، 14 مايو 2016

فائدة مهمّة في التحذير من الانبهار بما وصل إليه الكفار من علوم الدنيا

قال العلّامة الجليل محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

{...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون}
سورة الروم ٦-٧

"اِعلَم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أنْ يتدبّر آية «الروم» هذه تدَبُّرًا كثيرًا، ويبيّن ما دَلَّتْ عليه لكل مَنْ استطاع بيانه له من الناس.

وإيضاحُ ذلك:

أنّ مِنْ أَعظم فِتَن آخر الزمان التي ابْتَلَى اللهُ بها ضِعَاف العقول من المسلمين: شدّة إِتْقَان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عَجْز المسلمين عن ذلك،

فظنُّوا أنّ مَنْ قَدَرَ على تلك الأعمال أنه على الحق، وأنّ من عجز عنها متخلِّفٌ وليس على الحق،

وهذا جهلٌ فاحش، وغَلَطٌ فادح.

وفي هذه الآية الكريمة إيضاحٌ لهذه الفتنة وتخفيفٌ لِشَأْنِها أَنزَلَه اللهُ في كتابه قبل وقوعها بأزمانٍ كثيرة، فسُبحانَ الحكيم الخبير ما أَعْلَمه، وما أَعظمه، وما أَحْسَن تعليمه.

فقد أَوضَح جَلَّ وعَلا في هذه الآية الكريمة أنّ أكثر الناس لا يَعلمون، ويَدخُل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دُخولًا أوّلِيًّا،

فقد نَفَى عنهم جَلَّ وعلا اسم العِلْم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يَعْلمون شيئًا عمَّنْ خَلَقَهُم، فأَبْرَزَهُم مِنَ العَدَم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يُميتهم، ثم يُحييهم، ثم يُجازيهم على أعمالهم، ولم يَعْلموا شيئًا عن مصيرهم الأخير الذي يُقيمون فيه إقامةً أَبَديّةً في عذابٍ فظيعٍ دائم، ومَنْ غَفَلَ عن جميع هذا فليس معدودًا مِنْ جنسِ مَنْ يَعْلَم". اهـ

➖وقال أيضًا -رحمه اللهُ تعالى-:

"واعلَم أنّ المسلمين يجب عليهم تعَلُّم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غايةَ الإِيضاح في سورة «مريم» في الكلام على قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}، وهذه العلوم الدنيوية التي بَيَّنّا حقارتها بالنسبة إلى ما غَفَلَ عنه أصحابُها الكُفّار: إذا تَعَلَّمها المسلمون، وكان كُلٌّ مِنْ تَعليمها واستعمالها مطابقًا لِمَا أَمَرَ اللهُ به على لسان نبيِّه -صلى اللهُ عليه وسلم- كانت مِنْ أشرف العلوم وأَنْفَعها؛

لأنها يُستَعانُ بها على إعلاءِ كلمةِ الله ومَرْضاته جَلَّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيبَ فيها إذن، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة}، فالعمل في إعداد المُستطاع من القوة امتثالًا لأمْرِ الله تعالى وسعْيًا في مرضاته وإعلاء كلمته ليس مِنْ جنسِ عِلْمِ الكفار الغافلين عن الآخرة كما تَرى، والآيات بمثلِ ذلك كثيرة، والعلمُ عند الله تعالى". اهـ

📚 تفسير أضواء البيان ٦ / ١٦٦ - ١٦٧