السنّة التماس ليلة القدر في جميع العشر الأواخر، وبيانُ أنها ليلة متنقلة في العشر
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبيّنا محمد وعلى آله أمّا بعد،
فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان إلى أن توفاه الله واعتكف أزواجه من بعده.
وذلك التماسًا لليلة القدر التي هي {خيرٌ من ألف شهر} والتي {فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم} أي يُقْضَى فيها ما يكون من السَنَة إلى السَنَة، كما صحّ عن التابعي المفسر قتادة، وهي (ليلة الحكم) كما صحّ عن الإمام المفسر مجاهد بن جَبْر، قال الإمام الطبري في تفسيره ٢٤ / ٥٤٢: "وهي ليلة الحكم التي يَقضِي اللهُ فيها قضاء السَنَة". اهـ
وليست ليلة القدر ثابتة في ليلة معينة من العشر الأواخر، بل هي متنقلة في العشر كما دل عليه مجموع ما جاء فيها من الأحاديث الصحيحة والآثار.
ولو كانت ثابتة في ليلة واحدة لَمَا اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه من بعده، بل لأخبر الأمة وأرَاحَها بذلك كما كان صلى الله عليه وسلم يخبرهم بها في بعض السنين، ويخبرهم عن علامات لها، وكما خرج في يوم ليخبرهم بها فتخَاصَمَ رجلان فرُفِعَت فلم يخبرهم. [رواه البخاري (٢٠٢٣)]
فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من تعيين لِلَيْلة القدر أو إخبار بعلَامات لها إنما هو خاص بتلك السنين التي أخبرهم فيها بها، وليس عامًّا لكل الرمضانات، كما قرّر ذلك الألوسي في تفسيره ١٥ / ٤١٤
فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه أنه أُرِيَ ليلة القدر وأنه رأى أنه يسجد في ماء وطين، وكان ذلك ليلة إحدى وعشرين.
فهذا كان خاصًا بتلك السَنَة.
وروى مسلم في صحيحه (١١٦٨) من حديث عبد الله بن أُنَيس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يسجد في صبحها في ماء وطين، وكان المطر ليلة ثلاث وعشرين، وكان عبد الله بن أنيس رضي الله عنه يقول: ثلاث وعشرين.
وهذا خاص بتلك السَنَة أيضًا.
وجاء في صحيح مسلم (٧٦٢) عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقول أنها ليلة سبع وعشرين ويحلف على ذلك، فسُئل عن حُجّته في ذلك فقال: (بالعَلَامَةِ أو بالآيَةِ التي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا) يعني الشمس.
وهذا أيضًا خاص بتلك السنة، فإنّ هذه العلَامة ليست مطّردة في كل عام. [يُنظر: إكمال المُعْلِم، للقاضي عِيَاض، ٣ / ١١٦ وتفسير الألوسي ١٥ / ٤١٤]
وفي الصحيحين عن ابن عمر أنّ رجالًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُرُوا ليلةَ القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رُؤْيَاكُم قد تواطأت في السبع الأواخِر فمن كان مُتَحَرِّيها فلْيَتَحَرّها في السبع الأواخر).
وهذا خاص أيضًا بتلك السَنَة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في التعليق على الكافي: "هذا الحديث خاص بتلك السنة فقط، أمّا في عموم السنوات فهي من ليلة إحدى وعشرين إلى آخر الشهر، كل هذه الليالي تتحرَّى فيها، والدليل على هذا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام بقي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى مات، ولو كانت انحصرت في السبع الأواخر ما كلّف الأمة ولا كلّف نفسه أنْ يعتكف جميع العشر". اهـ
وقد تقدّم ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد بأنها كانت في عامٍ ليلة إحدى وعشرين.
فالخلاصة: ليلة القدر متنقلة في العشر، فمن قام العشر قام ليلة القدر بلا ريب، ولكن هناك ليالٍ هي أرجَى من غيرها وأكثر مصادفة لليلة القدر لها، مثل ليلة سبع وعشرين. [ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ٢٥ / ٢٨٥]
وقد قال الإمام ابن خُزَيمة في صحيحه: "باب الأمر بطلب ليلة القدر آخِر ليلة من رمضان إذْ جائز أنْ يكون في بعض السنين تلك الليلة".
وروَى بإسناده عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(التَمِسُوا ليلةَ القَدْرِ في آخِرِ ليلةٍ)
والحديث صحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (١٤٧١) وذَكَر له شاهدًا صحيحًا وهو ما رواه التِّرمِذي (٧٩٤) وغيره وصحّحه الترمذي والألباني وغيرهما عن عبد الرحمن بن جَوْشَن قال:
ذُكِرَت ليلةُ القدر عند أبي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- فقال: ما أنا مُلتَمِسُها لشيءٍ سمعته من رسول الله ﷺ إلّا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول:
(التَمِسُوها في تِسعٍ يَبْقَين، أو في سبعٍ يبقين، أو في خمسٍ يبقين، أو في ثلاث، أو آخر ليلة)
وكان أبو بكرة يصلّي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السَّنَة، فإذا دخل العشر اجتهَد.
وقد لخص التابعيُّ الجليل الإمام تلميذ الصحابة أبو قِلَابةَ الجَرْمِي -رحمه الله- ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في ذلك بقوله: "ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر". رواه الترمذي (٧٩٢) بسند صحيح، وصحّحه الألباني.
فمن أراد السنّة فليجتهد في العشر الأواخر كلها كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفّاهُ الله عز وجل.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على طاعته وأن لا يحرمنا خير هذه الليلة المباركة العظيمة. والحمد لله رب العالمين